الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومن ذلك قراءة محمد بن كعب وبكر بن حبيب السهمي: {نَسْئًا} 3، بفتح النون مهموزة؟قال أبو الفتح: قال أبو زيد نسأت اللبن أنسؤه نسئا، وذلك أن تأخذ حليبا فتصب عليه ماء، واسمه النسء والنسيء، وأنشد:
فتأويل هذه القراءة- والله أعلم- يا ليتني مِتُّ قبل هذا، وكنت كهذا اللبن المخلوط. بالماء في قلته وصغارة حاله، كما أن قوله: {وَكُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا4}، أي: كنت كالشيء المحقر ينساه أهله، ونَزَارَة أمره. ومن ذلك قراءة مسروق: {يُسَاقِطْ 6}، بالياء خفيفة. قال أبو الفتح: يساقط هنا بمعنى يسقط، إلا أنه شيئا بعد شيء، وعليه قول ضابئ البرجمي: أي يسْقُطُ قرن هذا الثور ضاريات كلاب الصيد لطعنه إياها، شيئا بعد شيء.ومن ذلك قراءة طلحة: {رُطَبًا جِنِيًّا}، بكسر الجيم.قال أبو الفتح: أتبع فتحة الجيم من {جِنِيًّا} كسرة النون، وشبه النون وإن لم تكن من حروف الحلق بهن في نحو صَأَى الفرخ صِئِيا، وفي نحو: الشخير، والنخير، والنغيق والشعير، والبعير، والرغيف. وحكى أبو زيد عنهم: ذلك لمن خاف وعيد الله.وله في تشبيهه النون بالحرف الحلقي عذر ما؛ وذلك لتفاوتهما، فالنون متعالية، كما أنهن سوافل: فكل في شقه مضاد لصاحبه، ألا ترى أن أبا العباس قال في همزة صحراء وبطحاء ونحوهما: صحراوان وبطحاوان وصحراوات وبطحاوات؟ شبهت الهمزة بالواو، لأن كل واحدة منهما طارفة في جهتها؛ فجعل تناهيهما في البعد طريقا إلى تلاقيهما في الحكم.وبعد فالعرب تجري الشيء مجرى نقيضه، كما تجريه مجرى نظيره. ألا تراها قالت: طَوِيل كما قالت: قَصِير، وشَبْعان كجَوْعان، وكَرُمَ كلَؤُمَ، وعَلِمَ كجَهِلَ؟ ولأجل هذا قال بعضهم: إن قَوِيَ فعل في الأصل حملا على نظيره الذي هو ضَعُفَ، وفي هذا كاف من غيره. ونحو من معناه قول المنجمين في النحسين إذا تقابلا: استحالا سعدا، وعليه قول الناس: عداوة أربعين سنة مودة. والمعاني في هذا العالم متلاقية على تفاوُتها، ومجتمعة مع ظاهر تفرقها، لكنها محتاجة إلى طَبٍّ بها وملاطف لها. ومن ذلك قراءة طلحة: {فَإِمَّا تَرَيِنَ}. وروى عن أبي عمرو: {تَرَئِنَّ}، بالهمز.قال أبو الفتح: الهمز هنا ضعيف؛ وذلك لأن الياء مفتوح ما قبلها، والكسرة فيها لالتقاء الساكنين؛ فليست محتسبة أصلا، ولا يكثر مستثقَلُه، وعليه قراءة الجماعة: {تَرَيِنَّ}، بالياء لما ذكرنا. غير أن الكوفيين قد حكوا الهمز في نحو هذا، وأنشدوا: نعم، وقد حكى الهمز في الواو التي هي نظيرة الياء في قول الله: تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} 4، فشبه الياء لكونها ضميرا وعلم تأنيث بالواو؛ من حيث كانت ضميرا وعلم تذكير. وهذا تعذر ما وليس قويا، ولا تُرَيَنَّ هذه الهمزة هي همزة رأيت، تلك قد حذفت للتخفيف في أصل الكلمة تَرْأَيْنَ؛ فحذفت الهمزة، وألقيت حركتها على الراء فصارت {تَرَيْنَ}، فالهمزة الأصلية إذا محذوفة، وغير هذه الملفوظ بها.وأما قراءة طلحة: {فَإِمَّا تَرَيِن} فشاذة، ولست أقول إنها لحن لثبات علم الرفع، وهو النون في حال الجزم، لكن تلك لغة: أن تثبت هذه النون في الجزم، وأنشد أبو الحسن: كذا أنشده يُوفُونَ بالنون، وقد يجوز أن يكون على تشبيه لم بلا. ومن ذلك قراءة أبي نهيك وأبي مجلز: {وبِرًّا}، بكسر الباء. قال أبو الفتح: هو معطوف على موضع الجار والمجرور من قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ}، كأنه قال: ألزمني بِرًّا، وأشعرني بوالدتي؛ لأنه إذا أوصاه به؛ فقد ألزمه إياه. وعليه بيت الكتاب: أي: ويسلكن غورا، وبيته أيضا: عطف دونَ الثانية على موضع من دونِ الأولى، نظائره كثيرة جدًّا. وإن شئت حملته على حذف المضاف، أي: وجعلني ذا برّ، وإن شئت جعلته إياه على المبالغة، كقولها: على غير حذف المضاف.ومن ذلك قراءة طلحة: {وريًِا} 5، خفيفة بلا همز.وقرأ: {وَزِيًّا}، بالزاي سعيد بن جبير ويزيد البربري والأعسم المكي.قال أبو الفتح: النظر من ذلك في: {وَرِيًّا} خفيفة بلا همز؛ وذلك أنه في الأصل فعل إما من رأيت وإما من رويت، فأصله- وهو من الهمز- {ورِئيًا} كَرِعْيًا، على قراءة أبي عمرو وغيره؛ فأريد تخفيف الهمز، فأبدلت الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ثم أدغمت الياء المبدلة من الهمزة في الياء الثانية التي هي لام الفعل، فصارت {وَرِيًّا}.ويجوز أن يكون من رويت قال أبو علي: وذلك لأن المريان نضارة وحسنا؛ فيتفق إذا معناه ومعنى وزيا بالزاي. وأصله على هذا رِوْيٌ، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت في الياء بعدها؛ فصارت وَرِيًّا.حدثنا أبو علي عن ابن مجاهد أن القراءة فيها على ثلاث أضرب: {ورِثْيًا}، {وَرِيًّا}، {وَزِيًّا} فهذا هذا.فأما {رِيًا}، مخففة غير مهموزة فتحتمل أمرين:أحدهما أن تكون مقلوبة من فعل إلى فلع؛ فصارت في التقدير رِيئًا، ثم خفف على هذا، فحذفت الهمزة، فألقيت حركتها على الياء؛ فصارت رِيًا، كقولك في تخفيف نيء: أكلت طعاما نِيًا، وفي تخفيف الجيئة: الجية. فإن خففت البيئة من قولهم: بات بيئة سوء قلت فيها: البِوَة، وذلك أنها في الأصل بِوْءَة، لأنها فِعْلَة من تَبَوَّأت، فانقلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصارت بيئة، فإذا ألقيت عليها فتحة الهمزة قويت بها، فرجعت الواو لقوة الحرف بالحركة، فقلبت بِوَة وقد استقصينا هذا الموضع من كتابنا المعرب، فهذا أحد الوجهين في رِيًا بالتخفيف.والآخر أن يكون يريد رِيًا من رويت، ثم يخفف الكلمة بحذف إحدى الياءين، كما قال: أتاني القوم لاسيما زيد بتخفيف الياء، وقولهم في الطَّيَّة والنية: الطِيَة والنِّيَة، بحذف إحدى الياءين. وينبغي أن تكون المحذوفة من ذلك كله هي الياء الثانية؛ لأمرين:أحدهما أنها هي المكررة، وبها وقع الاستثقال، وإياها ما حذف.والآخر أنها لام، وقد كثر حذف اللام حرف علة: كمائة، ورِئة، وفِئة. وقلما تحذف العين، فهذا هذا.وأما الزِّي، بالزاي ففِعل من زَوَيْت؛ وذلك أنه لا يقال لمن له شيء واحد من آلته: زِيٌّ، حتى تكثر آلته المستحسنة، فهي إذا من زويْت، أي جمعت.ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «زُوِيَت لِيَ الأرضُ»، أي جمعت، ومن قول الأعشى: وأصلها زِوْيٌ، فقلبت الواو على ما مضى، وأدغمت في الياء.ومن ذلك قراءة أبي نهيك: {كَلًّا سَيَكْفُرُون4}، بالتنوين.قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون {كلا} هذه مصدران كقولك: كل السيف كلا، فهو إذًا منصوب بعفل مضمر، فكأنه لما قال: سبحانه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا5} قال الله سبحانه رادا عليهم: {كلا}، أي: كل الرأي والاعتقاد كلا، ورأوا منه رأيا كلا، كما يقال: ضعفا لهذا الرأي وفيالة، فتم الكلام، ثم قال تعالى مستأنفا فقال: كل رأيهم كلا، ووقف، ثم قال من بعد: {سيكفرون}، فهناك إذا وقفان: أحدها {عزا}، والآخر {كلا}؛ من حيث كان منصوبا بفعل مضمر، لا من حيث كان زجرا وردا وردعا.ومن ذلك قراءة السلمى: {شيئ أدا}، بالفتح.قال أبو الفتح: الأد، بالفتح: القوة.قال: فهو إذًا حذف المضاف، فكأنه قال: لقد جِئْتُم شيئا ذا أدٍّ، أي: ذا قوة. فهو كقولهم رجل زَوْر وعَدْل وضَيْف، تصفه بالمصدر إن شئت على حذف المضاف، وإن شئت على وجه آخر أصنع من هذا وألطف، وذلك أن تجعله نفسه هو المصدر للمبالغة، كقول الخنساء: إن شئت على ذات إقبال وإدبار، وإن شئت جعلتها نفسها هي الإقبال والإدبار، أي: مخلوقة منهما: ويدلك على أن هذا معنى عندهم لا على حذف المضاف، بل لأنهم جعلوه الحدث نفسه قولهم، أنشدناه أبو علي: أي: هو مخلوق من البخل، ولا تحمله على القلب، أي: والبخل من الضنين؛ لصغر معناه إلى المعنى الآخر، ولأنه مع ذلك أيضا نزول عن الظاهر وأنشدنا أيضا. وأنشدنا أيضًا: ويكفي من هذا كله قول الله سبحانه: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ7}، أي من العَجَلَة، لا من الطين كما يقول قومٌ؛ لقوله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ 8}. اهـ.
|